محمد بن سعيد- ضمير المغرب، من المقاومة إلى الدفاع عن فلسطين.

المؤلف: حسن أوريد11.16.2025
محمد بن سعيد- ضمير المغرب، من المقاومة إلى الدفاع عن فلسطين.

في السابع من فبراير، ارتفعت الرايات الفلسطينية خفاقة في سماء مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، في مشهد مهيب لجنازة الراحل محمد بن سعيد. هذه المقبرة تحتضن رفات قامات وطنية شامخة، منهم الشهيد محمد الزرقطوني، رمز المقاومة المغربية الذي ضحى بحياته فداءً للوطن، والقيادي الجزائري التاريخي محمد خيضر، الذي اغتيل في مدريد عام 1965، والوزير الأول الأسبق عبد الرحمن اليوسفي، القامة الاتحادية المرموقة.

حشود غفيرة اكتظت بها أرجاء المكان، مودعة الفقيد إلى مثواه الأخير. لفّ الكثيرون منهم الكوفيات الفلسطينية حول أعناقهم، أو وضعوها على رؤوسهم، في إشارة رمزية إلى القضية التي نذر لها الراحل حياته، قضية انعتاق المغرب ووحدة الأمة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

لقد كان الفقيد علمًا من أعلام المغرب والأمة العربية، اسمه محفور في صفحات التاريخ الحديث. انخرط في الحركة الوطنية في ريعان شبابه، وانضم إلى حزب الاستقلال، وكان اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد عام 1952 نقطة تحول في مسيرته، حيث انخرط بعدها في صفوف المقاومة، ثم في جيش التحرير، بادئًا بالشمال، حيث كانت قبضة الإدارة الإسبانية أقل وطأة، ثم في الجنوب، حيث تصاعدت وتيرة العمليات التي نفذها جيش التحرير، مما أثار حفيظة المستعمر الفرنسي، الذي تواطأ مع إسبانيا لقمع تحركات جيش التحرير، واستخدم الطائرات الحربية في قصف وحشي طال الأبرياء والمواشي، في ما عُرف بـ "خبطة الطياير". تأثر محمد بن سعيد بالقيادي المهدي بن بركة، واعتنق الفكر اليساري الذي تفرع عن حزب الاستقلال.

لقد كان توجه محمد بن سعيد قوميًا عروبيًا ويساريًا تقدميًا. آمن بالقضايا المصيرية للأمة العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وظل مناصرًا لها حتى الرمق الأخير، كما تشبث بالاتجاهات اليسارية التي انتشرت في العالم منذ ستينيات القرن الماضي، مستلهمًا من الثورة الكوبية والحرب الفيتنامية.

لا أبالغ إن قلت إن محمد بن سعيد هو ثالث ثلاثة من السياسيين المغاربة الذين تجاوز صيتهم الآفاق، بعد محمد بن عبد الكريم الخطابي، بطل معركة أنوال، والقيادي الأممي المهدي بن بركة.

ومن المفارقات العجيبة أن هذا القومي العروبي لم يكن عربي الأصل، بل أمازيغيًا من منطقة سوس، تعلم اللغة العربية الفصحى في مرحلة متأخرة من عمره، وكانت لكنته تفضحه وهو يلقي خطبه أو يتحدث بها. لقد كان من طينة الرجال الذين لا يفرقون بين عربي وأمازيغي، طالما وحدتهم القيم والمبادئ والقضايا المصيرية.

لقد كان محمد بن سعيد صوتًا لشريحة واسعة من المغاربة، تلك الشريحة التي ظلت وفية للماضي، منفتحة على المستقبل، ومتفاعلة مع الحاضر. والمفارقة الأخرى في حياة هذا الرجل اليساري الصلب، أنه تلقى تكوينًا تقليديًا في المدارس العتيقة، إلا أن هذا التراث لم يكن بالنسبة له مجرد حشو أو جمود، بل كان يحمل روحًا ومعنى.

ما يميز نضال محمد بن سعيد عن غيره من رجال الحركة الوطنية، هو أنه لم يداهن السلطة، ولم يبد أي ليونة تجاهها. رفض الدساتير التي كانت تُعرض عليه، معتبرًا إياها دساتير ممنوحة تضفي الشرعية على الحكم الفردي والاستبداد، كما رفض طقوس السلطة، ولم يقبل يد الملك أو يركع أمامه.

لم تتسامح السلطة مع مواقفه، فضيقت عليه الخناق منذ تبني أول دستور عام 1962، الذي رفضته المعارضة. اضطر بن سعيد إلى الرحيل إلى الجزائر، التي كانت آنذاك قبلة الثوار وملاذ المناضلين.

لم تلبث السلطة في المغرب أن أصدرت حكمًا غيابيًا بإعدامه. وبسبب علاقته الوثيقة بالرئيس الجزائري بن بلة، اضطر إلى مغادرة الجزائر عام 1967، وعاش في المنفى بين سويسرا وفرنسا، في ظروف مادية قاسية، مستخدمًا أوراقًا ثبوتية جزائرية.

في فرنسا، تعرف على العديد من القوميين. كان زاهدًا في حياته، بسيطًا في مظهره. وظل على هذا المنوال حتى آخر حياته، يقيم في شقة متواضعة في حي شعبي بالدار البيضاء، وينفر من الأضواء والمظاهر.

عاد إلى المغرب في بداية الثمانينيات بمقتضى عفو عام، وأسس حزبًا يضم نخبة من الشباب المتأثرين بالفكر القومي والتوجه الماركسي، هو منظمة العمل الديمقراطي الشعبي عام 1983.

كان الهدف من ذلك هو تأكيد الخيار الديمقراطي، والنضال من داخل المؤسسات، على خلاف الخيار الثوري الذي كان يهدف إلى تغيير نظام الحكم بالقوة. كان بن سعيد يهدف إلى تغيير قواعد الحكم وليس مجرد تغيير النظام، لأنه كان يؤمن بأنه لا فائدة من استبدال استبداد بآخر. فاز بن سعيد بمقعد في البرلمان عام 1984، وكان صوتًا لمن لا صوت لهم، وكان الوحيد الذي تجرأ على طرح سؤال حول معتقل تازمامارت الرهيب، الذي كان يعتبر من المحرمات.

أسس مجلة أسبوعية حملت اسم "أنوال"، تيمنا بموقع المعركة التي انتصر فيها محمد بن عبد الكريم الخطابي على الإسبان عام 1921. كانت هذه الأسبوعية من أهم المنابر الثقافية في تاريخ المغرب المعاصر، إلى جانب مجلة "لام ألف" التي كانت تصدر باللغة الفرنسية.

كانت أسبوعية "أنوال" (التي تحولت فيما بعد إلى يومية) منبرًا فكريًا قوميًا بامتياز، وساحة لفضح انتهاكات حقوق الإنسان.

لقد كان تنظيم محمد بن سعيد، كما وصفه الداعية الإسلامي عبد السلام ياسين، جيشًا مؤلفًا من جنرالات، حيث ضمت المنظمة خيرة المثقفين المغاربة.

كان انخراط محمد بن سعيد في دمقرطة الحياة السياسية واحترام حقوق الإنسان أمرًا جليًا، وكان حزبه من دعائم الكتلة الديمقراطية التي تأسست عام 1992، والتي استطاعت أن تنتزع من السلطة مراجعة الدستور.

إلا أن بن سعيد وبعضًا من رفاقه رفضوا التصويت على دستور 1996، الذي لم يكن يمنح ضمانات لتداول حقيقي للسلطة، ولم يتضمن آليات لتحقيق توازن السلطات، مما أدى إلى انشقاق في المنظمة.

إلى جانب ذلك، كان انخراط بن سعيد في القضايا القومية راسخًا وثابتًا، كما تجلى في لجنة الدفاع عن العراق، واللجنة المغربية الفلسطينية، ومشاركته في المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت عام 1994.

لقد ظل بن سعيد ضميرًا حيًا. ابتعد عن المناصب والمسؤوليات الرسمية في أواخر حياته، لكنه لم يتخل عن التزاماته ومبادئه. احتضن حزب اليسار الموحد، ودعم حراك 20 فبراير أثناء "الربيع العربي"، ودافع عن الصحفيين المعتقلين ومعتقلي حراك الريف، وسعى إلى إرساء أسس الحوار مع البوليساريو، وزار الجزائر بهدف تحقيق مصالحة مغربية جزائرية، وظل على تواصل مع فعاليات فيها، وحتى مع بعض عناصر السلطة. ولم يغفل عن القضية الفلسطينية، وظل متابعًا لها بكل تفاصيلها.

لم يكن خطيبًا مفوهًا ولا سياسيًا بارعًا، لكنه كان يتمتع بحسّ سليم والتزام صادق وبساطة في جميع جوانب حياته، وهو ما منحه قوة فريدة.

خصصت له مجلة "زمان" ملفًا خاصًا في أحد أعدادها، ونعته بـ "آخر الصديقين"، بينما أطلق عليه اليساريون لقب "راهب اليسار"، ووصفه أحد قدامى البوليساريو بأنه "خاتم المجاهدين". وحتى السلطة اعترفت بمكانته، حيث حضر شقيق الملك الأمير رشيد جنازته. لقد كان بحق جبلًا شامخًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة